السبت، 13 يونيو 2020

المرء تابع أوهامه




في الليلة الأولى لعودتا للمنزل بعد انقضاء أيام العزاء كنت أرتدي شالا وتركته على السرير حيث اتجهت للنوم في غرفة أمي وتركت سريري لخالتي، وهكذا ظلت خالتي تنام عليه كل يوم معتقدة أنه لأمي، ألمحها تشمه بين حين وآخر لكن لا أعلق، حتى طلبت مني الاحتفاظ به فأخبرتها أنه كان هدية لي من أمي في أحد رحلات الحج، فضحكت: "وأنا اللي كل ده باشمه وأتمسح بيه، واحد برضو"

الناس يحمّلون تركات الراحلين أكثر مما يجب، سواء متعلقاتهم المادية أو بعض أحاديثهم ورغباتهم المصرحة، إلى جانب تأويل المضمر بين الكلام. وهذا أمر أتفهمه، وإن كنت أرى الجميع على مسافة أبعد من التي وقفتها من أمي فلا أقبل تداولهم لها بحميمية، أما الذي لا أستطيع تقبله إطلاقا فهو سيل الرؤى الذي لا يتوقف، تأتي خالتي بين حين وآخر لتقص حالة رأت عليها أمي أو أُخبرَت برؤية أحدهم لها في منام، حتى أنه بعد أسبوع من وفاة أمي زارتنا إحدى الأقارب  لتقترب مني وتسأل بأسى: "ما حلمتيش بيها؟ المفروض تيجي لك تطمنك" وطبعا ليس من النباهة أن أرد عليها بأنها في حالٍ لا يقلق فيها الفرد على غيره، فلها شأن يغنيها.

الموضوع متوغل في إرثنا الثقافي، ، أذكر صبيحة وفاة والد صديقتي أخبرت رفاق الطريق إنني رأيته في بعض هلاوس زارتني، كان قد جافاني النوم طوال الليل من قلقي عليها وحزني فخلال الغفوات أذهب لمشاهد جمعتنا، حيلة معتادة لعقلي الند، لأجدهن يتحمسن ويولون كل الانتباه لي، وجدت الأمر يتخذ مسارا غير الذي قصدت  فأنكرت ما حدث، ومن حينها أتساءل لما يضع الناس مناماتهم موضع النرد من حياتهم!
اقتضت الحاجة أن نعزي أنفسنا بلقاءات العالمين عند خط النوم الفاصل بينهما، والجهل بقدرات العقل الجبارة على خداعنا يجعلهم يسلمون بأن هذه اللقاءات جميعها حقيقية ومحسوسة من الطرف الآخر كما هي من جهتهم، رغم أن هذا احتمال من ضمن ثلاثة احتمالات: قد يكون ما نراه من ملك الحلم -موكل من الله-، أو من الشيطان، أو من النفس. وفي أفضل الأحوال ما زلت لا أومن بأن حتى الموكّل به من الله تشهده روح الفقيد، الوصال انقطع بانفصال المصائر، ولا رجعة في ذلك. الموضوع برمته ضرب من الأنانية، فأنا أحتاج بشرى أو مواساة أن من رحل عن الجميع يزورني ليرشدني أو يهدهدني، ولمَّا كانت الرؤيا الصحيحة من علامات النبوة، فالشخص يتحرى التصديق عليها ليتعالى في تفسه بأنه مفضل بما اتصف به الأنبياء.
عندما طفح بي الكيل، مما يدور؛ من تدّعي أن أمي أخبرتها في منام أنها ستهاديها بشيء معين، ومن تأمر بالحرص على صدقة لأن أمي زارتها على هيئة معينة، ومن تبشر بشواهد من أخبار الجنة،فجالست خالتي مفتتحة: "مش عاوزة أصدمك في معتقداتك بس كل دي أوهام" وناقشتها باقتضاب محافظة على هدوء الأعصاب في الرد على تدليلها من الرؤى التي تحققت، من حينها باتت تتحسس أن تقص عليّ أي من هلاوس المنامات. لأنعم في هدوء بهلاوسي المضببة السوداوية، التي أقر بسوء مصدرها فلا آخذ بطالعا. 
حتى أتتني الليلة الماضية متهللة ببعض تحفظ: "بس هتقولي الأحلام مش حقيقية" مستطردة أن أمي زارت ابنتها وابنة خالتي الأخرى في نفس الليلة في أحوال مشابهة -حسنة- وأعطت إحداهما خاتما بفص أحمر، وتفسير الأمر أنه بشرى زواج واللون الأحمر يعني حبا مشتعلا، لم أتمالك نفسي وضحكت، لتعلن تحديها أن هذه فرصة لحسم الأمر؛ إذا تحقق هذه الرؤيا صدق رأينا في الأحلام وإذا لا فأنتِ محقة، وفي حال تأخر تأخر عادي فقد بأحد الحلمين رقم ثمانية، وهو طبعا رقم يدل على الخير والبركة مثل رقم سبعة ليس كرقم اثنين وأربعة وأرقام السوء والخراب، لكن قد يعني المدة الزمنية التي تفصل عن التحقق، ثمانية شهر مثلا، أو ثمانية سنين يا خالتو من يعلم!

حريٌّ بأمي -وحدها- أن تعرف أنني لا أشتهي حبا بعد الآن، ولم أكن أبدا لأتزوج إلا لأسعدها  بالاطمئنان عليّ.



هناك تعليق واحد:

المرء تابع أوهامه

في الليلة الأولى لعودتا للمنزل بعد انقضاء أيام العزاء كنت أرتدي شالا وتركته على السرير حيث اتجهت للنوم في غرفة أمي وتركت سريري لخالت...